قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية.
الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما
17314 مشاهدة
الاقتصاد والتوسط في حقه صلى الله عليه وسلم

الأمر السابع : الاقتصاد والتوسط في حقه صلى الله عليه وسلم:
 جرت سنة الله في خلقه بوقوع الإفراط أو التفريط، وأن كل أمة يقع منهم في الغالب غلو أو تقصير؛ لذلك حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته المتبعين له من الغلو في حقه وإعطائه شيئا من خالص حق الله -تعالى- ويتبين ذلك بما يأتي:
(1) أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج عن كونه بشرا، قال الله -تعالى- قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ؛ فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط، وقال -تعالى- قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ؛ وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر الأرض أو يسقط السماء عليهم .. إلخ، فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده، فأما هو فإنما تميز بالرسالة التي حمله الله إياها، وقد حكى الله عن الأمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل بأنهم بشر، كما في قوله -تعالى- عن قوم هود أو صالح: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ وحكى عن المكذبين لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أنهم قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ؛ أي يسعى للتكسب وطلب الرزق، فأجاب عن ذلك بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ؛ أي ليسوا ملائكة فإن البشر لا يتمكنون عادة من رؤية الملائكة، بل لو أرسل الله ملكا لما تمكنوا من مشاهدته حتى يتمثل في صورة إنسان فيقع الاشتباه، قال -تعالى- وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ .
ولما وقع منه -صلى الله عليه وسلم- السهو في الصلاة ولم يذكروه ظنا منهم أن الصلاة قد قصرت، فقال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني متفق عليه ، ومتى كان الرسل بشرا فلا يناسب إعطاءهم شيئا من حق الله من صفة أو عمل.
(2) أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب، وإنما يخبر بما أخبره الله به وأوحاه إليه، قال الله -تعالى- قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وقال -تعالى- قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ وقال -تعالى- وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ .
فالغيب لا يعلمه إلا الله -تعالى- وإنما يظهر بعض خلقه على شيء من ذلك كمعجزة وبرهان على صدقه، كما قال -تعالى- عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ؛ أي أنه -تعالى- يطلع من ارتضاه وهم رسله على أمور من الغيب مما سبق أو مما يأتي، ولا ينافي ذلك قوله -تعالى- قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ .
فإن ما وقع من الإخبار في الأحاديث عن الأمور المستقبلة هو من الوحي الذي أطلع الله عليه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بواسطة الرسول الملكي، أو بما فتح الله عليه وألهمه، ومتى كان هذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن قبله من الرسل، لم يصلح أن يصرف لهم شيء من حق الله الذي هو عبادته وحده، ولا أن يوصفوا بما اختص به الرب تعالى، فقد أنكر -صلى الله عليه وسلم- على الجاريتين اللتين عند الرُّبَيِّع بنت معوذ قولهما: وفينا نبي يعلم ما في غد رواه الترمذي ، وقالت عائشة -رضي الله عنها- من حدثك أن محمدا يعلم في ما في غد فلا تصدقه رواه البخاري ، وورد في حديث جبريل -عليه السلام- لما سأل عن الساعة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أماراتها؛ إذا ولدت الأمة ربها، وإذا رأيت الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت متفق عليه ، وهذه الخمس يعني مفاتح الغيب المذكورة في قوله -تعالى- وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ .
فمن ادعى العلم بشيء منها أو نسبه إلى بشر فهو كاذب.